-->
»نشرت فى : الخميس، 19 سبتمبر 2024»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

حياة الماعز _ عبدالرحيم حشمت عسيري


 حياة الماعز

بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي
من المعروف أن السينما تعد إحدى الوسائل الإعلامية المهمة التي تسلط الضوء على القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من قضايا المجتمع المختلفة وتنقل صوته بموضوعية شديدة باعتبارها واحدة من الصناعات العبقرية المعقدة التي تتفاعل مع الواقع وتتبادل معه الأدوار فتتأثر به تارة وتؤثر فيه تارة أخرى حيث تنهل من تجاربه الحية وتستلهم حكاياتها من صفحاته المتنوعة ثم تعود لتلهمه من جديد .. مثلها في ذلك مثل المسرح والتليفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي .
وما لعبة السياسة ـفي أية دولةـ ببعيدة عن هذه المنافذ الإعلامية المهمة فهي حاضرة دائما وبقوة كمراقب على مدار الساعة وكمحرك أساسي لها ولغيرها من الأدوات التنويرية الأخرى وذلك لتوجيه الرأي العام من خلال نشر أفكار معينة بأساليب متعددة لتسليط الضوء على قضية محددة لرفع الروح المعنوية مثلا واجمالا الإسهام في تشكيل الوعي المجتمعي وحمايته من التأثر بدعاوى التضليل وحملات التشويه التي يقودها الأعداء والخونة والعملاء في الداخل والخارج .
ولعل قضية نظام الكفيل في السعودية التي طرحها الفيلم الهندي حياة الماعز بشجاعة نادرة فأحدث أزمة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي وأثار ردود فعل واسعة ومنذ عرضه للمرة الأولى مترجما للغة العربية على قناة نتفليكس الأمريكية في شهر اغسطس 2024 م قامت الدنيا ولم تقعد حتى هذه اللحظة خير دليل على صحة ما تقدم .. حيث تدور قصة هذا الفيلم حول الشاب الهندي نجيب الذي دفعه الفقر دفعا لمغادرة بلاده إلى السعودية لعله يجد عملا يدر عليه دخلا يسد رمقه هو واسرته البسيطة بعدما رهن بيته ودفع دم قلبه ثمنا للتأشيرة لكن أمله خاب وعاد هربا بجلده خالي الوفاض في مشهد مأساوي مؤثر يمزق القلوب .
عاد نجيب هربا من هول ما عانى خلال ثلاث سنوات قضاها معزولا عن العالم كله في سجن مفتوح في قلب صحراء قاحلة تحت أشعة الشمس الحارقة راعيا للغنم بدون مقابل تحت التعذيب النفسي والبدني والتهديد بالقتل ليل نهار والحرمان من أبسط حقوق الإنسان على يد كفيل لا يرحم ولا يمت للإنسانية بأية صلة أوقعه حظه العاثر في طريقه فأذاقه الويل والثبور وعظائم الأمور لا لذنب اقترفه سوى أنه انسان بائس فقير حاله كحال ملايين المعدمين في الأرض .
ومن خلال متابعة المستجدات في المنطقة يمكن لأي منا أن يلاحظ بمنتهى البساطة أن السعودية لم تكتف بما حباها الله من أماكن مقدسة تهفو إليها قلوب مليار ونصف المليار مسلم من كل فج عميق على مدار العام والتي تمثل بالنسبة لها قوة ناعمة لا تضاهيها قوة في العالم .. حيث تبذل في هذه الفترة جهودا مضنية بحثا عن موضع قدم في ميدان مصادر القوة الناعمة الثقافية المتنوعة كالموروث الحضاري والابداع الفني والتراث الثقافي رغم أن هذه النوعية من القوة الناعمة مرتبطة ارتباطا أزليا بهوية الدولة التي نبتت فيها بذرتها الأولى ورغم أن مثل هذه القوة تُورث ولا تُباع ولا تُشترى لأنها جزء لا يتجزأ من حضارات أمم وشعوب بعينها مثل التراث الحضاري المصري المتوارث جيلا بعد جيل منذ آلاف السنين من أيام أجدادنا الفراعنة وكذلك النتاج الثقافي المصري (الفكري والعلمي والفني والأدبي) المتراكم عبر العصور .. وما ينطبق على التراث الحضاري والنتاج الثقافي ينطبق أيضا على العنصر البشري .
أقول بالرغم من هذه البديهيات رفعت السعودية شعار الانفتاح على كافة المستويات بكل ما تحمله كلمة الانفتاح من معنى من أجل امتلاك هذه القوة الساحرة بأية طريقة وذلك من منظور رؤية سياسية جديدة وإن شئنا الدقة مغامرة شبابية تستحق المتابعة رصدت الدولة في سبيل تحقيقها ميزانية ضخمة .. لكن الحقيقة الغائبة عن أصحاب هذه الرؤية أن المال وحده لا يصنع أمة ولا يبني حضارة ولا يكفي لامتلاك قوة ناعمة موروثة .
وحرصا من السعودية على المضي قدما في طريق امتلاك القوة الناعمة قامت مؤخرا بمنح الجنسية لبعض الإعلاميين والفنانين المصريين من الدرجة الثانية وقدمت لهم الهدايا والعطايا بالملايين .. كما تحرص السعودية أيضا بين الحين والآخر على تكريم المواهب الفنية الشابة واقامة الحفلات الترفيهية بمناسبة وبدون مناسبة .. وبينما السعودية كذلك انفجرت في وجهها قنبلة حياة الماعز فتحول على أثرها ما كان يدور حول نظام الكفيل من نقد وجدل وثرثرة إلى حرب كلامية شرسة .. حرب كلامية متعددة الأطراف كل منها ينظر إلى هذه القضية من زاوية مختلفة .. فأصابت هذه القنبلة القائمين على ملف القوة الناعمة المنشودة بصدمة عنيفة أربكت حساباتهم وبعثرت أوراق مهمتهم وجعلتهم يفكرون في اعادة ترتيب أولويات المرحلة .
لكن ما أن عُرض فيلم حياة الماعز حتى انقسم عليه الناس كالعادة إلى فريقين حيث يرى الفريق الأول أن ما جاء في هذا الفيلم محض ادعاءات كاذبة لتشويه صورة السعودية حاضنة الأماكن المقدسة التي تتفانى في خدمة ضيوف الرحمن على مدار العام ..كما يرى هذا الفريق أيضا أن دولة بهذا الثقل لن ينال من مكانتها فيلما هنا أو هناك ولن يعطل مسيرتها كائنا من كان وستبقى صاحبة الأيادي البيضاء في كل مكان .. أما إظهار نظام الكفيل بهذه الصورة القبيحة ما هو إلا زوبعة في فنجان سرعان ما تختفي وتختفي معها كل المزاعم المصاحبة لها .
أما الفريق الثاني فيرى عكس ذلك تماما حيث يرى أن نظام الكفيل في السعودية نظام جائر ملأ الأرض ظلما وقهرا وعنفا وعدوانا وأن ما ورد في قصة هذا الفيلم من اذلال ومهانة ما هو إلا غيض من فيض ونقطة من محيط من المآسي التي يعاني منها كثير ممن لا حول لهم ولا قوة من العمال البسطاء من الجنسيات كافة حيث يعملون بلا أجر في ظروف مشابهة على أيدي كفلاء جفاة غلاظ قساة معدومي الذمة والضمير والكرامة ولا يعرفون معنى الرحمة .
لم يتوقع أحد أن فيلم حياة الماعز الذي استغرق تصويره 5 سنوات في صحراء الاردن والجزائر بعدما رفضت مصر شعبا وحكومة وقيادة تصويره على أراضيها حبا واكراما للسعودية وتضامنا معها على المستوى الرسمي من منظور قومي .. والذي كشف باحترافية عالية الوجه القبيح لنظام الكفيل سيحقق أعلى نسبة مشاهدات في تاريخ السينما العالمية ويحصد 5 جوائز بعد اسبوع واحد من عرضه ويحقق أرباحا خيالية غير مسبوقة ويثير ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي عم صداها أرجاء الكرة الأرضية خلال أيام معدودة .
لا شك أن هذا الفيلم نجح باقتدار في أن يوصل للمشاهد خطورة قهر الإنسان على هويته الإنسانية التي تميز بها عن الحيوان عندما أُجبر بطل القصة على يد كفيل ظالم على أن يعيش فترة طويلة وحيدا بين الماعز والأغنام حتى فقد الاحساس بإنسانيته فتوحد معها وتطبع بطباعها وفهم لغتها وامتزجت هويته بهويتها .. فتحية اجلال واحترام واكبار لجميع المشاركين في هذا العمل الفني العظيم وخاصة الفنان العماني طالب البلوشي الذي مثل دور الكفيل الظالم باقتدار وتعرض لهجوم سعودي كبير على مواقع التواصل الاجتماعي فلم يعره أي اهتمام .
أما عبقرية هذا الفيلم المثير للجدل والحزن معا فتكمن في أنه استطاع ببساطة شديدة من خلال هذه القصة المحزنة التي وقعت أحداثها المؤسفة في تسعينات القرن الماضي أن يحرك مشاعر مئات الملايين من المشاهدين من أصحاب القلوب الرحيمة في مشارق الأرض ومغاربها .. كما استطاع هذا الفيلم أيضا أن يوجه أنظار العالم كله تجاه قضية نظام الكفيل في السعودية فأصبحت هذه القضية الشائكة القديمة المتجددة ـبلا أدنى مبالغةـ قضية الساعة.. ولسان حال الفيلم يقول أيها العالم أما آن الأوان للبت في هذه القضية ؟ .
وبالرغم مما تقدم تبقى هذه الجريمة ـرغم بشاعتها ودناءة مرتكبهاـ حالة فردية لا يقاس عليها وتعميمها يعد تشويها متعمدا لصورة السعودية وتحاملا كبيرا عليها .. وهذا لا يتعارض أبدا مع كونها جريمة بشعة وقعت فعلا وتقع اليوم وستقع غدا .. وربما بصورة أشد قسوة وأكثر دناءة .. وسيبقى الحال على ما هو عليه إلى ما لا نهاية .. ما لم تبادر السعودية بإعادة النظر في نظام الكفيل وإيجاد حلول بديلة أكثر إنسانية وأكثر رحمة .

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus

الابتسامات

0102030405060708091011121314151617181920212223242526272829303132333435363738394041424344

design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة مجلة المســــ العربية ـــــاء 2014 - 2015