-->
»نشرت فى : الثلاثاء، 17 سبتمبر 2024»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

رقصة الموت الأخيرة قصة لــ سعيدة حميد


 رقصة الموت الأخيرة ./ قصة قصيرة .


مرت السنوات بطيئة كئيبة بعد وفاة زوجته منذ خمس سنوات ، في ذلك الحادث الاليم ... عاش فؤاد مرارة ايامها دون ان يُشعر احدا ممن حوله ... فقد اجمعوا على ان السي فؤاد هو مثال للزوج الاصيل الذي راعى سنين العشرة فظل وفيا لزوجته في مماتها كما في حياتها ...عاش وفيا لرجل من شمع ، صنعوه له وسجنوه بداخله ...وفيا لصورة لم تعكس يوما حقيقته ...ظل وفيا لكل تصوراتهم ورغباتهم ونسي مع الايام ان يعيش لنفسه ولحقيقته...
اليوم سيجتمع الابناء والاحفاد ككل يوم جمعة ليقضوا معه اليوم كله ...اليوم سيعرف البيت حياة وستملؤه الضحكة والحركة ،ستعود اليه الحياة وسيعيش السي فؤاد تلك اللحظات كأنها الاولى والاخيرة ،لم يدر ان كانت كفيلة بتبديد الم الوحدة التي يعيشها طول ايام الاسبوع ...
كل شيء جاهز على طاولة الغذاء ... عيناه لا تفارقان عقارب الساعة ...يتأكد من ان كل شيء جاهز ومعد حسب رغبات كل واحد منهم ..."هذا طبق الارز الذي يحبه مهدي وهذا طبق الخضر المحشوة باللحم المفروم الذي يحبه سامي ...اااه ..نسيت زهرة ومريم ...لابأس ساحضر وجبتهما حالا ...وانت ايها الشقي ادم ..متى ستريح معدتك من الاكل الجاهز ؟ مابه طبخ جدك ؟ انظر ماذا حضرت لك اليوم ...ستحسدك ريم ومنال ولن اسلم من عتابهما وشكواهما ".
رن الهاتف ..انها زهرة تعتذر عن الحضور لأن زوجها دعاهم الى رحلة خارج المدينة ... صمت قليلا ثم قال بخيبة :"لابأس ...لابأس".
تحلق الجميع حول المائدة ...تبادلوا الاخبار من هنا وهناك ...استمتعوا جميعا بلحظات ممتعة مرحة ...وقبل ان يغادروا ،اسرعت مريم الى كيس فاخرجت جلبابا وبلغة وقدمته لوالدها وهي تعدد مزاياه وانه سيبدو مختلفا حين يلبسه ..." هذا الجلباب سيزيدك هيبة ووقارا ... انظر انه اللون المفضل لديك ..اليس كذلك ؟ " تسلم منها الجلباب و قبل رأسها شاكرا وهو يقول ..."خزانتي فيها من الجلابيب ما يكفي عمرا اخر يا ابنتي ... انت تعرفين انني لا اجد راحتي الا في هذا اللباس وهذا اللون ..فلم تصرون على ان اغيره وانتم تعرفون انني لا احب غيره ؟ "
.."لقد مضى زمان هذا يا ابي ، انت الان كبرت ما عاد يناسبك هذا النوع من الالبسة ... صار الجلباب يليق بك اكثر مناسب لعمرك و هو
الانسب للذهاب الى االمسجد... اااه نسيت ان اخبرك ...هل تتذكر جارنا القديم ؟ علمت انه تزوج ولم تكمل زوجته الاربعين" ...ابدت مريم استياءها حول الموضوع و كيف كانت صدمتها اكبر حين علمت ان ابناءه هم من تكلفوا بتزويجه ...فهي لم تتوقع منهم ذلك خاصة وانه لم يمر على وفاة امهم العام ؟ ... "اكيد فعلوا ذلك حتى يتخلصوا من مسؤولياتهم تجاهه"
...وحتى تؤكد له انه لن يحتاج الى من يهتم به اسرعت الى ياقة قميصه لتتفقدها وهرولت لتجلب له قميصا اخر انظف...ثم عادت الى حديثها ..لم تدخر وسعا في ان تبين له فضاعة ما فعله جارهم ، فماكان يليق بعجوز مثله ان يتزوج ... لقد صار حديث الناس ومحل سخريتهم... قالت في غضب :"تنكر لزوجته التي ضحت معه وتنكر لايامها ،وهاهو اليوم يعيش حياته وكأنها لم تكن يوما..اااه من الرجال !!". ... قال معاتبا " لكنه لم يفعل ما يعيب ..لقد تزوج على سنة الله ورسوله " ...ثم قام من مكانه ليذهب الى الشرفة يشعل سيجارة متجاهلا ردات فعلها...انتبهت مريم الى تغير مزاجه وتغير نبرة صوته وهو يعقب على كلامها ثم قالت بصوت عال :"وكأنه كان ينتظر موتها ليفكر بأخرى ..لوكان يحبها كما احببت انت امي لما فعلها ولظل وفيا كما بقيت انت وفيا لامي ... انظر اليك ! هاانت تعيش سعيدا ،و لم تفكر باخرى تحل مكان امي "...التقط فؤاد الرسالة فيسألها مستغربا كلامها "وما دخل وفائه وحبه لزوجته في زواجه بأخرى؟...هناك امور تحدث لا دخل للحب او الوفاء فيها ... والحياة ليست اكل وشرب وسبحة ومسجد يا مريم" ...
غادروا البيت على وعد ان تزوره مريم كل يوم لتتفقده وتعتني بالبيت.
عاد الى الكيس وفتحه من جديد ..اطال النظر الى الجلباب والبلغة والطربوش " أهذا فقط ما سيجعلني وفيا وأصيلا في نظركم ؟" ابتسم ساخرا ثم توجه نحو غرفته ،فتح الدولاب ورماه مع بقية الجلابيب ...
احس السي فؤاد بتعب شديد استدعى حضور اولاده ..حملوه الى المستشفى لاجراء الفحوصات اللازمة ...لا شيء يقلق ...بعض الارهاق فقط وعليه ان يبتعد عن التوتر ...
تمر الايام بطيئة باردة على فؤاد ...لا هاتف يرن ولا أحد يطلب وده أو ينتظر مساعدته...لم يعد لديه ما يقدمه ،فانفضوا من حوله..
..احس بالفراغ يزحف نحوه، فيحترق من داخله ويذوب كلما اشتد احتراقه وتذوب معه رغبته في الحياة ...
حمل بعضا من همومه والتحق باصدقاء له باحدى المقاهي على ناصية الشارع لعله يجد بينهم متنفسا له وخلاصا من هواجسه ... لم يزده لقاؤه بهم الا توترا ... وجوه مبتسمة لأجساد خاوية ...كانهم مجرد منتج انتهت مدة صلاحيته فوجب التخلص منه... جمدت احاسيسهم ونضبت مشاعرهم وكل امنياتهم ،حسن الخاتمة ...
مشط الطرقات بعد ان خذله الجميع، بعد ان انكشفت له سوءات هذا الواقع الذي يعيش اقصى ماديته وبراغماتيته ..كان بحاجة الى ان يتوه بعيدا عن كل مكان يعرفه ويذكره بمعاناته ويزيد من هواجسه ...عاد منكسرا الى بيته، يستأنس بالموسيقى واحيانا يتصفح كتابا ...همس لنفسه " صدق سارتر حين قال " الجحيم هو الآخر "
...استمر فؤاد على هذا الحال اياما سجين الامه يائسا مكتئبا ...حريصا على الا يفقد حب اولاده واحترامهم ،حريصا اكثر على الا يخدش الصورة التي رسموا له ... لكنه من داخله يتوق اكثر الى كسر ذلك القالب الذي فرضوه عليه ويعود للحياة ... استبدت به الوحدة فما عاد يتحمل احدا . ...
انتبهت زهرة الى حالة الفوضى داخل البيت ...وشرعت تفتح النوافد وتعيد ترتيب بعض الاغراض تنبهه من حين لأخر الى انه لم يعد يهتم بنظافته ولا بمظهره " أنت تفرط في التدخين وهذا يضر بصحتك ' ... ليرد في شبه تمتمة :"طالما الروح منطفئة فلاشيء يفيدها ". غادرها غير مبال لاهتمامها المزيف ...سالته " هل تواظب على ادويتك ؟" ..ليرد بيأس شديد" .لا تهتمي انت بصحتي ،خذي ابنتك واتركيني ..ساتحسن لا تقلقي" ..
لم يعد فؤاد قادرا على العيش لاجل الاخرين فحسب ... ادرك ان رجل الشمع الذي صنعوه له صار يذوب يوما بعد يوم وهو يسعد الاخرين ...تساءل:"اين انا من كل هذا ؟" الى متى ساعيش كما يريدون؟ ...لقد صنعوا مني شخصا اجوفا ،وهاهم اليوم يحركونه كما بحلو لهم ،شخص يرضي غرورهم ويحافظ على شكلهم امام الناس "
هجر كل انشطته اليومية. ..هجر كتبه و هاتفه وحتى الجرائد التي لم تبرح يديه يوما ...كل شيء بات مهجورا حين هجرته الحياة وهجره الفرح ...افرط في التدخين ...يقضي اليوم يروح ويجيء داخل غرفته يرفض ان يتصل باحد اويتواصل مع احد ... صار يستعجل الموت ... نظر الى علب الادوية المرصوصة جانب السرير ...ابتسم وهو يتذكر ماقاله الطبيب ..."ابتعد عن التوتر" ...فتذكر انه لم يتناول جرعة واحدة من هذه الادوية لانها ليست دواءه ولن تعيد اليه شغفه ،لن تمنحه الحياة .
في لحظة ما خيل اليه ان وجوه ابنائه تكاد تفترسه ...صراخهم يعلو ،وتهديداتهم مخيفة ،نظرات الاشمئزاز ترعبه ...لقد فقدوا الثقة في ابيهم ..لقد اهتزت صورة الاب الاصيل ... فيهب في وجوههم صاخبا "ماذا تريدون مني ؟ اتركوني لحالي ..لا اريد زياراتكم ....لا اريد اهتمامكم ولا عطفكم ولا احترامكم ...انتم تخنقونني بمشاعركم المهترئة المزيفة ...سئمت حرصكم على تذكيري كل يوم بالوفاء لأمكم ...ليتني كنت مت في الحادث بدل الموت كل يوم" ...نظر الى علب الادوية امامه ....
بدأت اطرافه ترتعد ...جف حلقه ..لم يعد يسيطر على نفسه وشرع يكسر كل ما يوجد من حوله وهو يتجه اليها ....ارتعشت يداه حين مدها نحو علبة من المهدئات ...تردد فسحب يده بسرعة ...
كان يصرخ شيء بداخله محاولا ايقاظه من حالة الهلع التي انتابته ،وما فتىء يهتف " مستحيل ان استسلم لكم ،مستحيل ان استسلم لكم ".
كان خائفا من فكرة العيش طويلا محاصرا وسجينا داخل هذا القالب الضيق ومقيدا بأغلال بئيسة صدئة ...انها فكرة تشبه الموت ...بدأت انفاسه تضطرب وبدأ جسده ينز عرقا ...يحاول التنفس بقوة فيسمع صوت انفاسه المضطربة ويزداد هلعه اكثر فاكثر ...رن الهاتف ...
لم يهتم فتركه يرن ...انها زهرة تخبره بقدومهم غدا لقضاء اليوم معه كما العادة ...يحاول ان يتجنب صراخها المزعج فيبعد الهاتف عن اذنه.... تلاشى الهاتف من يده ...لا زال صوتها على الهاتف مزعجا...هدأ قليلا يحاول ان يرتب افكاره و يفسر مشاعره ...اغمض عينيه ..." كانت تراقصه بكل اناقة ورقي بلباسها الملائكي الابيض ،على نغمات سيمفونية" لحن الحب والحياة"... يهمس في اذنها ان الحياة كل الحياة ، بجانبها، فتحمر وجنتاها خجلا ثم تبتسم. بكل الرضى والغنج الذي اشتاق اليه ...يرتفع ايقاع الموسيقى فترتفع معه نبضات قلبه ليزدادا تلاحما و ذوبانا ..شعر ان دماء دافئة ضخت في اوردته.. وشعر بأنفاسه تتصاعد وبعضلاته تتمدد لتتلاشى فيسقط ارضا منتشيا سعيدا ...
اسند ظهره على حافة السرير وهو يداعب علبة دواء ويبتسم لها ،كأنه يعدها برقصة ثانية وثالثة وعاشرة و بأن لا يفارقها، فقد تعب من الانتظار وتعبت روحه من الوحدة والفقد .. فكر ثم فكر ،وقرر ان ينهي كل متاعبه ويضع حدا لمعاناته ... ان يتخلص من السجن الذي بداخله ، ويستعيد حريته وحياته بين يديها ودفء احضاتها .. ماعاد يحلم بشيء الان ولا يأمل في الغذ ،إذ لا شيء يتجدد فيه غير الالم والخذلان ...
تمدد على سريره ،داعبت خياله صور احبها كثيرا تتخللها اصوات وصراخ وضحكات وقهقهات وبكاء لاطفال صغار ونحيب لجمع من الناس ...اغمض عينيه وراح يكمل رقصتهما الاخيرة... حلقا بعيدا بعيدا ...بدا سعيدين .. نزلت دمعتان من عينيه ثم استسلم لنوم لم يستيقظ بعده ...

سعيدة حميد/ المغرب . 

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus

الابتسامات

0102030405060708091011121314151617181920212223242526272829303132333435363738394041424344

design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة مجلة المســــ العربية ـــــاء 2014 - 2015