-->
»نشرت فى : الاثنين، 30 سبتمبر 2024»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

نصف حياة قصة لــ الكاتبة سعيدة حميد


 نصف حياة ./قصة قصيرة .


... وفي طريق العودة الى البيت ، مر على دكان الفاكهاني ،ثم خرج منه يحمل كيسين ...هرول نحو موقف الحافلات عساه يحظى بركوب اول حافلة تقله الى بيته ...لقد بات يضنيه طول الانتظار.. والازدحام... والتدافع... والصراخ ...ماعاد يقوى على الركض ،فقد اثقلت خطاه كثرة همومه وانشغالاته ومسؤولياته التي زادت بعد وفاة والده ... صار اكثر عزلة وانطواء ...يحمل حزنه بداخله... يبكي ويعاني في صمت ...يتظاهر بالقوة والسعادة في عز ضعفه...تغيرت كل اولوياته ...صار يحلم ان يحظى بإجازة يريح فيها هذا الجسد المنهك، وينعش هذا القلب الخالي الا من مشاعر باهتة ،ويرسم على هذا الوجه الذابل فرحا هجره من سنين ..
مر على شلة من الشبان وهم يتراكضون في فرح طفولي ...يملأون المكان حبورا ...يوزعون الابتسامات على المارة تارة وينفجرون ضحكا تارات اخرى ...يرقصون على نغمات موسيقة حية مرحة كتلك التي كان يهتز لها بدنه يوما ...شده منظرهم ...توقف يتابع نشاطهم ومرحهم غير مبالين بمن ينظر اليهم من المارة ...ابتسم قليلا ورافق ذاكرته الى زمن ليس ببعيد، حيث كان واحدا من هؤلاء الشباب، يعيش الحياة بكاملها ..يسرق منها كل لحظة فرح قد لا تعود . . لم تثنه عن ذلك متاعب الحياة ولا مشاغلها ...راح يتساءل :
-"كيف مر العمر بسرعة ؟ كيف انفرط الزمن مني و انجرفت مع تيار المسؤولية واستسلمت للمشاكل وسمحت لها ان تنتزع مني الحياة التي استحقها ، لأنتهي الى هذه الحياة الجافة المملة ؟ ما أقساه من احساس ! ...ها انا اليوم اقف عاجزا منهكا أتذمر طول الوقت ...هجرني الفرح وغابت عن وجهي الابتسامة ...منذ وفاة والدي نسيت نفسي حتى اهترأت مشاعري وشاخت اطرافي وذبلت احلامي وانفض الاصدقاء من حولي ...كبرت دون ان اعرف " ..
بدأت الاهات تخرج تباعا، والألم يعصف برأسه ... نظر في يأس الى شلة الشبان ثم قال:
- "وددت لو استطيع الركض مثلكم ،ان اشارككم احلامكم ،ان اكون شابا مفعما بالحياة مثلكم "...
فجاة انتبه الى نفسه ،افلت الكيسين من يديه وراح يتفقد وجهه وشعره وكل اطرافه وهو يحاور نفسه :
-"هذا انا ...رضوان .. ماذا يمنعني ان أكون احد هؤلاء الشبان ؟ .. بل الحقيقة انني ذلك الشاب الذي كان قبل سنوات قليلة محبا للحياة،مقبلا عليها ،فكيف نسيت نفسي ونسيت ان اعيش؟كيف حرمت ذاك الطفل الذي بداخلي ان يعيش ؟ "...
-من قال انك عجزت ؟ ... لازلت شابا ...لازلت قادرا على الركض ...على الحلم ...على السقوط والفشل ...على القيام والبدء من جديد ...لا زلت قادرا على الحب والعطاء "...
-"فكيف سمحت للزمن ان يسلبني كل هذا ؟ " اخلطت بداخله مشاعر اليأس والامل وتضاربت رغبته في الاقبال على الحياة بالخوف من التغيير ... الصور تتزاحم في خياله وتتدافع غاضبة امام عينيه،تريد ان تخرج للحياة ...ان تتحرر ...ما عاد للجسد من قوة لمقاومتها،فاستسلم لها ...
في هذه اللحظة ،ايقن رضوان ان ما يؤلم حقا ليس اننا نكبر ،ولكن لاننا نعيش بلا حلم و بلا حب...لاننا نعيش للآخرين... لأننا نعيش نصف حياة ...
انحنى على الكيسين ...حملهما وعيناه لا تفارقان شلة الشبان ... وكلما ابتعد كلما شده منظرهم أكثر ...شيء ما بداخله يدفعه نحوهم ...لم يشعر رضوان الا وهو واقف بينهم وقد كست وجوههم لمحة من الدهشة ...رحبوا به لكنه لم يبادلهم الترحيب ..اغمض عينيه واستسلم جسده لايقاع اغنية سرت انغامها في جسمه مسرى الخذر ...تحلق الشبان من حوله ووقفوا ينظرون اليه وهم يتبادلون نظرات الدهشة ... ظل ايقاع الاغنية يرتفع ويرتفع معه جسد رضوان وينتفض ثم يتمايل منسجما معها ،يضرب الارض برجليه فتتناثر الاتربة من حوله ،يزيده حماسا صراخ وتصفيقات الشبان ...كان العرق يتصبب من كل جسمه و يتناثر في كل الاتجاهات ...لم ينتبه الى ما يحدث الا حين خيم الصمت على المكان و الكل ينظر اليه والى رقصه باعجاب ...وحتى يكسر هذا الصمت ويبدد الدهشة من على وجوههم خاطبهم مازحا :
-" مابكم ؟ تبدون مندهشين ...صحيح انني اكبركم ، لكنني مازلت احتفظ ببعض الشباب .... لا زال قلبي ينبض بالحياة " ... اغتنم رضوان هذه اللحظة ليوجه اليهم خطابه الاخير عن الحياة.. قال يحَمِّل كلماته كل معاني الندم :
- " الحياة جميلة ،وكل ما فيها جميل، وعليكم ان تستمتعوا بكل هذا الجمال ...لاتسمحوا لأي شيء ان ينزع من داخلكم جمالكم ...ولتكن حياتكم اولى اولوياتكم ...لديكم حياة واحدة فعيشوها كما تحبون لا كما يحب الاخرون ...لا تفرطوا في سعادتكم "
وقبل ان يبتعد ،التفت اليهم وقال منبها اياهم .
- " ولا تنسوا ان تحلموا ،ففي الحلم حياة ،بل كل الحياة ،وحافظوا على ذلك الطفل الذي بداخلكم ،لا تهملوه ابدا ...احتفلوا به كلما اتيحت لكم فرصة لذاك ، ففيه يكمن سر سعادتكم"...
ثم ودعهم وانسحب وهو يعد نفسه ان يعود الى الحياة ليعيشها كلها ،لاليعيش نصف حياة ...

سعيدة حميد 

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus

الابتسامات

0102030405060708091011121314151617181920212223242526272829303132333435363738394041424344

design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة مجلة المســــ العربية ـــــاء 2014 - 2015