احتراق _ أحمد لحمام
احتراق
كانت الساعة الحائطية المثبتة على جدار الغرفة تشير إلى منتصف الليل، حين رفع رأسه بعفوية، تأمل قليلا وضعية عقربيها. ثم ضحك مستهزئًا بنفسه عما خالجه من أفكار. كيف حصل ذلك وهو ذو العقل الحصيف؟ كيف ترك العنان لنفسه للتفكير في مثل تلك الترهات؟
في اللحظة ذاتها، كانت ساعة مكتبه الإلكترونية تومض ببريق أرقامها المكونة من أربعة أصفار. إنها "الساعة المرآة" كما يسميها المنجمون، أولئك الدجالون الذين يجدون في أصحاب العقول السطحية مرتعًا لنشر أفكار لا تستند إلى دليل منطقي.
نعم، تلك اللحظة التي تقع صدفة؛ ترى فيها أرقام الساعة متطابقة، وقد يحدث لك ذلك عدة مرات متتالية في اليوم بشكل متزامن. فتنذهل، وربما تتساءل كيف حدث ذلك، رغم أنك في قرارة نفسك تعي أنها مجرد صدفة، فتلك الأرقام مفروض عليها أن تتكرر.
و من بين شروحاتهم، أن تلك اللحظة المرتبطة بقوة الأرقام والمتزامنة مع وعينا، قد تمنحك القدرة على التواصل مع عالم لا مرئي تجيب من خلاله على جملة من الألغاز المستعصية.
نظر من حوله بدافع الفضول، أمعن النظر في خزانته المملوءة بالكتب، والتي لم يعد لوجودها معنى منذ أن صار هاتفه الخلوي مصدره الوحيد للمعرفة ولتحديث معلوماته. فأصبحت تلك الكتب مجرد ديكورات تزين خزانة غرفته، شأنها شأن أشياء كثيرة نحتفظ بها رغم انتهاء صلاحيتها ووظيفتها.
على الرفوف، مئات الكتب تدير ظهرها، نائمة في سباتها لسنوات. لا تظهر للعين سوى رقابها المتراصة، متسائلة في صمت كيف انتهى بها الأمر في هذا الأسر، دون محاكمة عادلة.
كان كل أسير ينتظر فرصة ليحكي روايته قصد الإقناع، لتتم تبرئته أو اعتباره مذنبًا يستحق القصاص.
في السابق، عاش أسلافهم حياة النبلاء، يقيمون في مكتبات فاخرة من خشب الأبنوس أو الزان والبلوط، يتدثرون بأكسية مصنوعة من الجلد والحرير، منقوشة باليد، مرصّعة بالأحجار الكريمة أو بخيوط الذهب والفضة. يُحظون بالرعاية والاهتمام، في مأمن من اي خطر قد يحدق بهم، وتفوح منهم رائحة تنعش أرواح القراء المدمنين. يُرحب بهم أينما حلّوا، ولا يصاحبهم إلا من عشق الحكمة.
في تلك اللحظة، كانت موسيقى جنيريك الفيلم المطول "فهرنهايت 451" تعلن نهايته، حيث ارتأى أنه من المناسب القيام برحلة إلى زمان وفضاءات رواية احد المحظوظين من سجناء مكتبته.
كان لا يزال تحت تأثير موضوع الفيلم، حيث يتم تعقب الكتب وحرقها. تذكّر تلك التي أُحرقت في بغداد، في غرناطة، وفي برلين...
بحركة عفوية سريعة، اقترب من خزانته. اجتاحه إحساس غريب، نوع من الإرتباك، خوف من أن تستحوذ عليه أفكار أحد أولئك السجناء المجانين.
بالكاد لمست أطراف أصابعه رقبة السجين الأول، صرخ فرديريك في وجهه بجينيالوجيته الأخلاقية. لمس الثاني، صرّح له كارل بفائض قيمته. لمس التالي، فهَمَس له مارسيل بذاكرته اللا إرادية. ثم لمح له رينيه بشكّه المنهجي...
كانوا جميعًا هناك، عاقدين العزم على تشكيل عقله بذلك القالب الذي يسمونه "المعرفة المرحة".
بدا له أن جهله بما تحويه تلك الكتب اهون له من أن يقضي الليل متيقظًا، فآثر النوم، لكن النوم استعصى عليه، فلم تغمض له عين، حتى أعتق أحد نزلاء مكتبته.
أحمد لحمام
اضف تعليقاً عبر:
الابتسامات